دليل على تقاربنا

نقترح عليكم مقتطفًا من خطاب قداسة البابا فرنسيس للدبلوماسيين المعتمدين لدى الكرسي الرسولي بمناسبة اللقاء السنوي لتبادل تهاني العام الجديد، قاعة البركات، 8 فبراير 2021

الأزمة السياسية

إن المسائل الحرجة التي ذكرتُها حتى الآن تسلِّط الضوءَ على أزمة أعمق بكثير، والتي هي في أصل المشكلات الأخرى بطريقة أو بأخرى، والتي ظهرت مأساتها بفعل الجائحة على وجه التحديد. إنها الأزمة السياسيّة التي طالت العديدَ من المجتمعات منذ زمن والتي ظهرت آثارها المضنية أثناء الجائحة.

وأحد العوامل الرمزيّة لهذه الأزمة هو نموّ المعارضة السياسيّة وصعوبة -هذا إن لم يكن استحالة-، البحث عن حلول مشتركة ومتقاسمة للمشاكل التي يعاني منها كوكبنا. ونرى هذا المَيل، منذ بعض الوقت، ينتشر أكثر فأكثر حتى في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية القديمة. وأصبح الحفاظ على الحقائق الديمقراطية يمثّل تحديًا في هذا الزمن التاريخي، وهذا يطال عن قرب جميعَ الدول: سواء كانت صغيرة أو كبيرة، متقدّمة اقتصاديًا أو نامية. وأفكّر بشكل خاصّ في هذه الأيام في شعب ميانمار وأعبّر له عن محبّتي وقربي. لقد تسبّب انقلابُ الأسبوع الماضي بوقفٍ مفاجئ للمسيرة التي بدأت في السنوات الأخيرة نحو الديمقراطية. وقد أدّى إلى سجن العديد من القادة السياسيّين، الذين آمل أن يُطلق سراحهم سريعًا، دليلًا على تشجيعِ حوارٍ صادق لصالح خير البلاد.

ومن ناحية أخرى، كما أكّد بيوس الثاني عشر في رسالته الصوتية التي لا تُنسى بمناسبة عيد الميلاد عام 1944: « أن يعبّر المواطنُ عن رأيه في الواجبات والتضحيات التي تُفرَض عليه؛ ألّا يُجبَرَ على الطاعة دون أن يتمّ الاصغاء له: هما حقّان يجدان تعبيرهما في الديمقراطية كما يشير عليه اسمها بالذات ». تقوم الديمقراطية على الاحترام المتبادل، وعلى إمكانيّة مساهمة الجميع في خير المجتمع، وعلى اعتبار أن الآراء المختلفة لا تقوّض سلطة الدول وأمنها، بل إنها تثري بعضها البعض، في نقاش صريح، وتسمح بإيجاد حلول مناسبة للمشاكل التي يجب مواجهتها. وتتطلّب العمليّة الديمقراطية اتّباع مسيرة حوار إدماجي وسلميّ وبنّاء ومُحترِم بين جميع مكوّنات المجتمع المدني في كلّ مدينة وأمّة. إن الأحداث التي اتّصف بها العام الماضي من الشرق إلى الغرب، وإن كانت بطرق وسياقات مختلفة، وحتى -أكرّر- في بلدان ذات تقاليد ديمقراطيّة قديمة، تُظهِر أنه لا مفرّ من هذا التحدّي وأننا لا نستطيع الاعتذار عن الواجب الخُلُقي والاجتماعيّ بمواجهتها عبر موقف إيجابي. إن تنمية الضمير الديمقراطي تتطلّب تخطّي النزعة الشخصانيّة واحترام سيادة القانون. فالقانون في الواقع، هو الشرط الأساسي الذي لا غنى عنه من أجل ممارسة أيّ سلطة ويجب أن تضمنه الهيئات المسؤولة بغضّ النظر عن المصالح السياسيّة المهيمنة.

لكن الأزمة السياسية والقيم الديمقراطية لها للأسف عواقب على المستوى الدولي أيضًا، مع تداعيات على كامل المنظومة المتعدّدة الأطراف وما ينتج عنها بالطبع من خرقٍ لفعالية المنظّمات التي تهدف إلى تعزيز السلام والتنمية -على أساس القانون وليس قانون « البقاء للأقوى »-. ولا يمكن الإغفال طبعًا عن أن المنظومة المتعدّدة الأطراف قد أظهرت أيضًا بعض القيود على مدى السنوات القليلة الماضية. أمّا الجائحة فتشكّل فرصةً لا يجب تضييعها من أجل التفكير في إصلاحات عضوية وتنفيذها، لكي تعود المنظّمات الدولية فتكتشف مجدّدًا رسالتها الأساسية في خدمة الأسرة البشرية من أجل الحفاظ على حياة كلّ شخص وعلى السلام.

إن إحدى علامات الأزمة السياسيّة بالتحديد هي التردّد الذي غالبًا ما يحدث عند الشروع في مسارات الإصلاح. يجب ألّا نخاف من الإصلاحات، حتى لو كانت تتطلّب تضحيات وغالبًا أيضًا تغييرًا للعقلية. فإن كلّ جسم حيّ يحتاج إلى إصلاح ذاتيّ باستمرار، وفي هذا المنظور تندرج أيضًا الإصلاحات القائمة في الكرسي الرسولي والكوريا الرومانية.

على أيّ حال، هناك بوادر مشجّعة، مثل دخول معاهدة حظر الأسلحة النووية حيز التنفيذ قبل أيام قليلة، فضلًا عن التمديد، لمدّة خمس سنوات أخرى، لمعاهدة خفض الأسلحة الهجوميّة الاستراتيجية (التي تُسمّى ب معاهدة ستارت الجديدة New START) بين الاتّحاد الروسي والولايات المتّحدة الأمريكية. من ناحية أخرى، كما كرّرت أيضًا في الرسالة العامّة الأخيرة Fratelli tutti، « إذا أخذنا في الاعتبار التهديدات الجوهرية للسلام وللأمن في أبعاده المتعدّدة في هذا العالم المتعدّد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين، […] فسوف تظهر شكوك عديدة حول ملاءمة الردع النووي لمواجهة هذه التحدّيات بفعالية ». في الواقع، لا يمكن أن يكون « مستدامًا التوازنُ القائم على الخوف، عندما يميل هذا التوازن في الواقع إلى زيادة الخوف وتقويض علاقات الثقة بين الشعوب ».  

إن الجهود المبذولة في مجال نزع السلاح وعدم انتشار الأسلحة النووية، التي يجب تكثيفها على الرغم من الصعوبات والتحفّظات، ينبغي أن تُبذَل أيضًا في مجال الأسلحة الكيميائية والأسلحة التقليدية. هناك الكثير من الأسلحة في العالم! قال القدّيس يوحنّا الثالث والعشرون عام 1963: « إن العدالة والحكمة والروح الإنسانية تطالب بالتالي بإيقاف سباق التسلح هذا، وبتخفيض الأسلحة الجاهزة اليوم تخفيضًا متوازيًا ومتزامنًا في مختلف البلدان ». وبينما يزداد العنف مع حشد الأسلحة على كلّ المستويات ونرى من حولنا عالمًا تمزّقه الحروب والانقسامات، نشعر أكثر فأكثر بالحاجة إلى السلام، إلى سلام لا يكون « مجرّد غياب للحرب بل حياة غنيّة بالمعنى، تُبنى وتُعاش في تحقيق الذات وفي مشاركة أخويّة مع الآخرين ».

كم أتمنّى أن يكون عام 2021 هو العام الذي تُكتَب فيه نهاية الصراع السوري الذي بدأ قبل عشر سنوات! ولكي يحدث هذا، هناك حاجة أيضًا إلى اهتمام متجدّد من جانب المجتمع الدولي لمواجهة أسباب الصراع بجدّية وشجاعة، وللبحث عن حلول يمكن من خلالها للجميع، بغضّ النظر عن الانتماء العرقي والديني، أن يساهموا في مستقبل البلاد بصفتهم مواطنين.

أوجّه أمنيتي في السلام إلى الأرض المقدّسة بالتأكيد. يجب أن تكون الثقةُ المتبادلة بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين الأساسَ من أجل تجديد حوار مباشر حاسم بين الطرفين، لحلّ صراع مستمرّ طال أمده. وأدعو المجتمع الدولي إلى دعم وتسهيل هذا الحوار المباشر، دون افتراض إملاء حلول لا تحمل في أفقها خيرَ الجميع. أنا متأكّد من أن الفلسطينيّين والإسرائيليّين على حدّ سواء لديهم الرغبة في العيش بسلام.

وأتمنّى كذلك تجديد الالتزام السياسي الوطني والدولي من أجل تعزيز استقرار لبنان، الذي يمرّ بأزمة داخلية والمُعرَّض لفقدان هويّته ولمزيد من التورّط في التوتّرات الإقليمية. من الضروري للغاية أن يحافظ البلد على هويّته الفريدة، وذلك أيضًا من أجل ضمان شرق أوسط متعدّد ومتسامح ومتنوّع، حيث يستطيع الوجود المسيحي أن يقدّم مساهمته وألّا يقتصر على أقلّية يجب حمايتها. إن المسيحيّين يشكّلون النسيج الرابط التاريخي والاجتماعي للبنان، ومن خلال الأعمال التربويّة والصحّية والخيريّة العديدة، يجب أن تُضمَنَ لهم إمكانيّة الاستمرار في العمل من أجل خير البلد الذي كانوا من مؤسّسيه. فقد يتسبّب إضعافُ الوجود المسيحي بفقدان التوازن الداخليّ والواقع اللبناني نفسه. ومن هذا المنظور، يجب أيضًا معالجة وجود اللاجئين السوريّين والفلسطينيّين. فالبلد إضافة لذلك، دون عمليّة عاجلة لإنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار، مُعرّض لخطر الإفلاس، مع ما قد ينتج عنه من انحرافات أصوليّة خطيرة. لذلك فمن الضروريّ أن يتعهّد جميع القادة السياسيّين والدينيّين، واضعين جانبًا مصالحهم الخاصّة، بالسعي لتحقيق العدالة وتنفيذ إصلاحات حقيقية لصالح المواطنين، فيتصرّفوا بشفافية ويتحمّلوا مسؤولية أفعالهم.

أتمنّى أيضًا أن يحلّ السلام في ليبيا، التي أضناها أيضًا صراع طويل، على أمل أن يسمح « منتدى الحوار السياسي الليبي » الأخير، الذي عُقد في تونس في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي تحت رعاية الأمم المتّحدة، بأن تُطلَق فعليًّا عملية المصالحة المنتظرة في البلاد.

هناك مناطق أخرى من العالم تشكّل أيضًا مصدرًا للقلق. أشير أوّلًا وقبل كلّ شيء إلى التوتّرات السياسيّة والاجتماعيّة في جمهوريّة أفريقيا الوسطى. وكذلك تلك التي تتعلّق بأمريكا اللاتينية بشكل عام، والتي يعود أصلها إلى التفاوتات الكبيرة والظلم والفقر، التي تجرح كرامة الأشخاص. إني أتابع باهتمام خاصّ أيضًا تدهور العلاقات في شبه الجزيرة الكورية، الذي بلغ ذروته في تدمير مكتب الاتّصال بين الكوريتين في كايسونغ؛ وكذلك الوضع في جنوب القوقاز، حيث لا تزال هناك عدّة صراعات مجمّدة، تأجّج بعضها خلال العام الماضي، ممّا يُضعف الاستقرار والأمن في المنطقة بأكملها.

أخيرًا، لا يمكنني أن أنسى آفة خطيرة أخرى في عصرنا هذا: الإرهاب، الذي يحصد كلّ عام ضحايا عديدة من السكّان المدنيّين العزّل في جميع أنحاء العالم. لم يَكفّ هذا الشرّ عن التزايد منذ سبعينيات القرن الماضي، وبلغ ذروته في الهجمات التي طالت الولايات المتّحدة الأمريكية يوم 11 أيلول / سبتمبر عام 2001 وقتلت قرابة ثلاثة آلاف شخص. وقد ارتفع للأسف عدد الهجمات في السنوات العشرين الماضية، وطال دولًا مختلفة في جميع القارّات. أشير بشكل خاص إلى الإرهاب الذي يضرب قبل كلّ شيء أفريقيا جنوب الصحراء، ولكن أيضًا آسيا وأوروبا. وأتوجّه بفكري إلى جميع الضحايا وإلى عائلاتهم، الذين رأوا العنف الأعمى يسرق أحبّاءهم منهم، وذلك بسبب تحريف أيديولوجيّ للدين. وبالإضافة، فإن هذه الهجمات غالبًا ما تستهدف أماكن العبادة بالتحديد، حيث يجتمع المؤمنون للصلاة. وفي هذا الصدد أودّ التأكيد على أن حماية دور العبادة هي نتيجة مباشرة للدفاع عن حرّية الفكر والوجدان والدين، وهي واجب على السلطات المدنيّة بغضّ النظر عن اللون السياسي والانتماء الديني.

أصحاب السعادة، سيّداتي وسادتي،

أقترب الآن من ختام هذه الاعتبارات، وأودّ أن أتطرّق مرّة أخرى إلى أزمة أخيرة واحدة، والتي هي ربما أخطر الأزمات: أزمة العلاقات البشريّة، التي هي تعبير عن أزمة أنثروبولوجية عامّة، والتي تتعلّق بمفهوم الشخص ذاته وكرامته السامية.

لقد أظهَرَت الجائحة، التي أجبرتنا على قضاء أشهر طويلة من العزلة والوحدة غالبًا، حاجةَ كلّ شخص إلى العلاقات الإنسانية. أفكّر أوّلًا في جميع الطلّاب الذين لم يتمكّنوا من الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة بانتظام. « جرت محاولة في كلّ مكان لإعطاء الإجابة السريعة، من خلال المنصات التربوية المعلوماتية. وقد أظهرت هذه المنصات، ليس فقط تفاوتًا ملحوظًا في الفرص التربويّة والتكنولوجيّة، ولكن أيضًا، بسبب الحجر المنزلي والعديد من أوجه القصور الأخرى الموجودة، أنّ العديد من الأطفال والمراهقين تأخّروا في العمليّة الطبيعيّة للتطوّر التربوي ». بالإضافة إلى ذلك، إن التوسّع في استخدام التعلّم عن بُعد قد أدّى أيضًا إلى زيادة « إدمان » الأطفال والمراهقين على الإنترنت، وبشكل عام على أشكال الاتّصال الافتراضي، مما يعرّضهم أكثر للخطر ولأن يقعوا ضحيّة الأنشطة الإجرامية عبر الإنترنت.

إننا نشهد نوعًا من « كارثة تربوية ». أودّ أن أكرّر: إننا نشهد نوعًا من « كارثة تربوية »، لا يمكن أن نبقى خاملين أمامها، من أجل خير الأجيال القادمة والمجتمع بأسره. « هناك حاجة اليوم إلى مرحلة جديدة من الالتزام التربوي تُشارك فيه جميع مكونات المجتمع »، لأن التعليم هو « المضاد الطبيعي للثقافة الفرديّة، التي تتدنَّى أحيانًا فتصير العبادة الحقيقية للأنا وتعطي الأولويّة للامبالاة. لا يمكن أن يكون مستقبلنا انقسامًا وإفقارًا لقدرة الفكر والخيال والإصغاء والحوار والتفاهم المتبادل »

23 Fév 2021 | Société

Print Friendly, PDF & Email

Église Catholique d'Algérie